في السابع عشر من كانون الأول\\ديسمبر، 2010، قام بائع الخضار محمد البوعزيزي بإحراق نفسه بعد أن سرق ضابط شرطة عربته، آخر قشة كان يتعلق بها في حياته البائسة تحت حكم زين العابدين بن علي. انتفض التونسيون وأطاحوا بالطاغية في النهاية. وما إن هبطت طائرة بن علي في باريس حتى عجّت موجات الأثير بأخصائيي الشرق الأوسط، الذين أعلنوا استحالة الثورة في مصر. فهناك كان حسني مبارك يحكم من خلال"الاستبداد المُدار"، وهذا تعبير في العلم السياسي عن السلطة التي تسمح بكميات معيّنة من الانشقاق الشعبي، أو بدرجات من تمثيل الدولة للجماعات الدينية والسياسية والاجتماعية المتنافسة، وهي استراتيجيات للحفاظ على الحكم الاستبدادي. وحين احتشد المصريون في ميدان التحرير وأسقطوا مبارك، التفت العرافون أنفسهم إلى سوريا حيث قيل إن إرهاب عائلة الأسد للسوريين الثائرين تجاوز الحدود...
كانت سوريا على الأرجح القشة الأخيرة للخبراء رغم أن ردود فعل الخبراء، على عكس ردّ فعل البوعزيزي، كانت مضادة للثورة. فافتتاحية بروس بوينو دي ميسكيتو Bruce Bueno De Mesquito وألاستير سميث Alastair Smith في 10 حزيران\\يونيو، 2011 في ذ نيويورك تايمز هي المثال الأوضح: أعلن "نوستراداموس الجديد"، وسميث في عمود من اثنتي عشرة فقرة أن الربيع العربي كان في الواقع قابلاً للتنبؤ؛ وبالفعل، لقد تنبآ بكل ذلك، أو على الأقل:"بسقوط السيد مبارك في لقاء مع المستثمرين في أيار\\مايو الماضي". وحين سُئل، "ما الذي فاجأك في الربيع العربي؟" قال عميد الشؤون الدولية في جامعة ساينسيس بو في باريس غسان سلامة، الذي على ما يبدو أساء فهم السؤال:"لم يفاجئني الربيع العربي". سلك نظام أوباما وجهة مختلفة، أسلوبياً هذا إذا لم يكن إبستمولوجياً. كان يمكن أن تعرف الولايات المتحدة مسبقاً عن الربيع ولكنها لم تعرف؛ "فشل استخباراتي" ـ مشكلات تدعو للأسف لكنها قابلة للحل في تخصيص الموارد وتنسيق تحليلي بين هيئات الاستخبارات في البلاد. قال أوباما إنه "فشل استخباراتي"، جعل الأميركيين يتفاجأون حين بدأ الربيع.
في هذه المداخلة، أقوم بتشخيص القلق الإبستمولوجيّ بعد الربيع العربي: إن عدم معرفة الأحداث مسبقاً ولّد فوضى مُهْمَلة في نظامنا العالمي للأمور، فوضى، تمنح الربيع الزخم، كما أقترح. إن هدفي هو تقديم تقويم أوّلي لهذه الأزمة في إنتاج المعرفة بالإضافة إلى الآليات التي استُخْدمت لتهدئة القلق بدلاً من التغلب عليه بعد الربيع العربي.
الشعور بشعور سيء ناجم عن الشعور بشعور جيد
فيما حثّتْ الانتفاضات في تونس على المزيد من الصراع في أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، كان ردّ فعل الغرب (يجب أن أنوّه هنا أن ما أعنيه بـ "الغرب" ليس الغرب الجغرافي على نحو رئيسي، بل "المركّب الذي تشكّله الديمقراطية الإجرائية ورأسمالية السوق"، "العرف الذي لا يُذلّل" لـ "المجتمع الدولي" الحالي (باديو 2011) كان رد فعل الغرب الفوري أنه شعر بشعور سيء ناجم عن شعوره بشعور جيد حيال الأحداث. متحدثاً بعد عدة أيام من إسقاط بن علي، قال الفيلسوف الفرنسي آلان باديو:"ليس من السهل التصريح اليوم: "أنا أحبُّ بن علي، لقد تحطّم قلبي حقاً لأنه يجب أن يترك السلطة". حين يقول المرء هذا، يجد نفسه في موقف سيء جداً. إن السبب الذي يجب أن يدفعنا إلى الإشادة بالوزيرة ميشيل أليوت ماري، وزيرة الشؤون الخارجية الفرنسية في عهد ساركوزي، والتي عبّرت عن أسفها علناً على تأخرها في وضع قوة الشرطة الفرنسية "الخبيرة" في خدمة بن علي، هي أنها عبرت بصوت مرتفع عما همس به زملاؤها السياسيون فحسب... تماماً كالجميع، الذين، قبل بضعة أسابيع فحسب، كانوا يهنئون أنفسهم بامتلاك بن علي كحصن قوي ضد الإسلام المتطرف وكطالب ممتاز للغرب، هم مجبرون اليوم، بسبب إجماع في الرأي، على التظاهر بالاغتباط لرحيله، وهم يهزوّن أذيالهم بين سيقانهم". أُجبرت إليوت ـ ماري على الاستقالة، ولم يكن هذا ناجماً بشكل جوهري عن أن نظام ساركوزي شعر بشعور مختلف، بل لأنه خشي على نحو صائب من أعمال الشغب في الضواحي.
وبصورة مشابهة، وفيما اكتسبت الاحتجاجات في ساحة التحرير الزخم، وهددت بإسقاط الرئيس المصري حسني مبارك، انطلق المكتب الصحفي في البيت الأبيض كي يؤكد للأسرة الدولية أنّ نظام أوباما ليس صديقاً لآل مبارك. في النهاية، وفي مقابلة أجْرتْها قناة العربية معها في 2009، قالت وزيرة خارجية الولايات المتحدة هيلاري كلنتون:"في الواقع أنا أعتبر السيد والسيدة مبارك صديقين لعائلتي. وهكذا آمل أن أراه غالباً هنا وفي الولايات المتحدة". وحين كان مبارك على حافة السقوط، أرسل البيت الأبيض مسؤولين دبلوماسيين كباراً كي يغذّوا الإعلام:" إن هيلاري تعرف أن مبارك دكتاتور، وهما ليسا صديقين حميمين". نجتْ كلنتون من مصير أليوت ـ ماري، قابلة كعقوبة المشاركة في عروض أحاديث صباح الأحد التلفزيونية. دفنت كلنتون بنجاح علاقتها الحميمة مع عائلة مبارك تحت حب هُلِّلَ له للانتخابات الحرة:"نريد أن نرى انتخابات حرة وعادلة، ونتوقع أن هذا سيكون إحدى نتائج ما يجري في مصر الآن!"
أريد أن أقول إن ردّ الفعل الغربي الأولي القلق هذا (الشعور بشعور سيء ناجم عن الشعور بشعور جيد إزاء ما كان يجري) يجبرنا على تسمية الربيع العربي حدثاً. من أجل هدفي هنا، أعالج "الحدث" على الخطوط التي اتّبعها باديو. لا يمكن التنبؤ بحدث مسبقاً؛ فالحدث هو خروج على الموقف التاريخي المستمر، طريقة جديدة جذرياً في التفكير والشعور. نتيجة لهذا، إن سمة الزّخم في حدث تاريخي لا يمكن أن تُحدّد إلا عبر إدراك متأخر. هنا يكمن خطأ المتحمّسين الذين يُسمّون الربيع العربي حدثاً بسبب تطلّعه المستمر نحو الانتخابات الحرة والتعبير الحر والأسواق الحرة وحقوق الإنسان. ومهما كانت هذه النتائج مرحَّباً بها، فإن الانتخابات الحرة والأسواق الحرة وحقوق الإنسان أمور جيدة داخل "أفقنا مما هو مسلّم به جدلاً"؛ إنها تحقق الموقف التاريخي الحالي بدلاً من أن تغادره بزخم.
يجب أن أكون واضحاً؛ حين أشير إلى سمة الزخم في الانتفاضات العربية لا أقصد أن أضفي طابعاً فتْشيّاً (استحواذياً) على الجدّة. فأنا لا أقيّم الانتفاضات العربية بحسب قدرتها أو عدم قدرتها على توليد شيء آخر غير الذي لدينا سابقاً. فضلاً عن ذلك، إن الانتخابات الحرة، وحرية التعبير، وحقوق الإنسان هي تطورات مُرحّب بها، وخاصة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث كانت ممنوعة لوقت طويل. ما أريد قوله هو أن هناك شيئاً جديداً في الربيع العربي يضيع حين يتم الخلط بين الانتخابات الحرة وحرية التعبير وحقوق الإنسان وكون الانتفاضات تمتلك زخماً.
إن الربيع العربي حدث لأنه، في لحظة فريدة، شعر الغرب بشعور سيء ناجم عن شعوره بشعور جيد حيال ما كان يجري في العالم. فكّروا مثلاً برد فعل أوباما الهوسي على الربيع في لحظة مجيئه. استخدم أوباما لغة فشل واحتفاء كي يصف الحدث: متعة متجلية بأن حفلة تجري... وشكوى كامنة من أن أميركا لم تُدْع إليها. ولكن ما الذي يجعل رد الفعل الغربي الأولي هذا على الانتفاضات العربية (ما الذي يجعل هذا الشعور السيء الناجم عن الشعور بشكل جيد) فريداً وجديداً ويمتلك زخماً؟
على الأقل منذ نهاية الحرب الباردة (وهنا أستفيد من كتاب بوب مايستر Bob Meister ذي الأهمية العالية، ما بعد الشر) كانت اللعبة الوحيدة المسموح بها في البلدة هي مناخ عالمي من التعاطف الإنسانوي. إنّ هذه التعاطف الإنسانوي هو "بنية شعور" خطابنا المهيمن حول حقوق الإنسان بعد الحرب الباردة، الذي يتطلب من الأسرة الدولية أن تشعر بشعور جيد ناجم عن شعورها بشعور سيء حول المعاناة البشرية أينما ومتى حدثت. إن مبرر وجود المجتمع الدولي منذ 1989 كان منع الشر بدلاً من السعي وراء الخير، إنقاذ الأجساد من الألم بدلاً من تهيئة الأوضاع لإمكانية تحقيق رغباتها. بتعبير آخر، إن المجتمع الدولي بعد 1989 يبرّر نفسه، يستمد قيمته الذاتية، وخيريته، من كونه شاهداً على المعاناة البشرية ومستأصلاً لها.
كي أوضح زخم الربيع العربي (كي أشير إلى ما كان جديداً حيال شعور المجتمع الدولي بشعور سيء ناجم عن شعوره بشعور جيد حيال الانتفاضات) دعوني أتحدث قليلاً عن موقف ما بعد الحرب الباردة من الشعور بشعور جيد الناجم عن الشعور بشعور سيء حيال المعاناة البشرية الذي قاطعتْه الانتفاضات بزخم قوي. بعد هزيمة رأس المال للشيوعية في 1989، كان يجب أن ينتهي التاريخ: لا شيء جديداً كان من المفترض أن يحدث. وانهارت إمكانية فعل بشري هادف وصانع للعالم مع جدار برلين، مما أفسح المجال لـ "نظام" nomos جديد للأرض"، توجّه عصرانيّ presentist أخلاقي جذري نحو إبقاء البشر أحياء. وقد شُجب العنف السياسي، الثوري والمضاد للثورة على حد سواء، بأنه متكرر وطائش؛ وكان يجب أن يكون الشر في القرن العشرين شيئاً من الماضي؛ وبزغ نظام عالمي جديد من حقوق الإنسان، ومسؤولية الحماية، "وعدم حصول هذا ثانية".
انطلق 1989 في نسيج عالمي من الزمن هو ضمنياً انتقالي، معارض لتوجه ملموس وفاعل وملحّ نحو زمن يُقْضى في خدمة قضية جاء من قبل. يتطلب الزمن الانتقالي الصبر، وحذراً وانتباهاً مفرطين ضد عودة شر القرن العشرين الذي استمر في أن يتخذ شكلاً متقطعاً في الانتهاكات المحلية لحقوق الإنسان في أنحاء الكوكب. وقد شُجبتْ حتى "ليبرالية الأمل" لجون رولز John Rawls في ثقافة حقوق إنسان ما بعد الحرب الباردة معارضة لأي توجّه ذاتي نحو خير المستقبل، خوفاً من الانتقاص من المهمة القائمة: منع الشرّ المتجدّد (38). إن "ليبرالية الخوف" لجوديث شكلار Judith Shklar، مثلاً، "ترفض جميع الآمال اليوتوبية، لأن تأثيرها السياسي المباشر هو إضعاف حساسيتنا حيال الأعمال الوحشية التي يمكن أن تُرتكب باسمها". فضلاً عن ذلك، يقول زميلها المحارب الإنسانوي جورج كاتب George Kateb إن أية سياسة مركزة على المستقبل، بما فيه حركات متأصلة بشكل واضح في المعارضة لعنف القرن العشرين، هي شرّ. يقول:
"ربما تحدث الشرور الأكبر حين تُقْنع الحكومات والمجموعات السياسية الناس بأن يصدّقوا بأن هناك شراً أكبر من الشر الأخلاقي، أو خيراً أكبر من الخير الأخلاقي... حين تُزاح الأخلاق عن عرش تفوقها، يتولّد عن ذلك شرّ مريع... من ناحية أخرى إن إنتاج الشر لصالح مقاتلة الشر الأخلاقي، أو محاولة تحقيق خير أخلاقي إيجابي كان ضخماً أيضاً... إن الهوية الثائرة تسعى وراء أهدافها دونما اعتبار للحدود الأخلاقية: أعني احترام الكائنات البشرية الفردية، من أجل ما ندعوه الآن حقوق الإنسان"(كاتب، 1992: 2012 -2013؛ مُقتطف في كتاب بوب مايستر 2011)
إن وجهة النظر هذه حول ليبرالية انتقالية ملتزمة بأخلاق إنسانوية بعد الحرب الباردة هي ضمنياً عدمية، كما يقول باديو في منطق العالم، "لأن اعتقادها الضمني هو أن الشيء الوحيد الذي يمكن في الواقع أن يحدث لشخص ما هو الموت". أو كما يعبّر سلافوج جيجيك Slavoj Zizek عنها متفقاً مع باديو: بعد أوشفيتز، "إن الدرس الجوهري للسياسة ما بعد الحداثوية هو ... إنه ليس هناك حدث، "لا شيء يحدث حقاً" باستثناء اللحظات الهاربة من التعيين الجمعي التي يجب أن "تُبدّد ... من أجل تجنب نتائج توتاليتارية كارثية". يذهب باديو إلى أبعد من ذلك قائلاً إنه منذ الثورة الإيرانية إلى الانتفاضات العربية، عشنا....
...ثلاثين عاماً كان الاعتقاد المهيمن أثناءها هو أن أحداثاً كهذه لم تعد في الواقع ممكنة. طرحت فرضية "نهاية التاريخ" هذا الزعم. ولم تكن تلك الفرضية تعني على ما يبدو أنه لا شيء أكثر سيحدث: عنت "نهاية التاريخ" "نهاية الأحداث في التاريخ". وكان المجرى الطبيعي للأمور تحالف اقتصاد السوق والديمقراطية البرلمانية، وقد كان هذا التحالف العرف الوحيد الذي يمكن الدفاع عنه للذاتية العامة. هذا هو معنى مصطلح "عولمة": [في الأعوام الثلاثين الأخيرة] صارت هذه الذاتية ذاتية عالمية.
إن التوجيه الحالي لخطاب حقوق الإنسان في عالم ما بعد الحرب الباردة (الشيء الوحيد الذي يُسمح لنا بفعله بعد 1989) هو أن نشعر بشعور جيد ناجم عن شعورنا بشعور سيء حيال المعاناة الإنسانية. ما يطالبنا خطاب حقوق الإنسان بفعله هو أن نكون شهوداً عاطفيين على المعاناة أين ومتى حدثت، وأن نتدخل لإيقافها أين ومتى استطعنا. إن مسوّغ وجود المجتمع الدولي منذ 1989 مستمدٌّ من منع الشرِّ بدلاً من السعي وراء الخير، ومن إنقاذ الأجساد من الألم بدلاً من تهيئة الأوضاع لإمكانية تحقيق رغباتها. وتشكّل الانتفاضات العربية "حدثاً" لأنها قاطعت "بنية الشعور" بشعور جيد ناجم عن الشعور بشعور سيء السائد في عالم ما بعد الحرب الباردة؛ للحظة واحدة، جعلت الانتفاضات العربية العالم يشعر بشعور سيء ناجم عن شعوره بشعور جيد.
الشعور بشعور جيد ناجم عن الشعور بشعور سيء ثانية
لم يستمر طويلاً القلق الغربي بعد الربيع العربي (اللحظة المليئة بالزخم التي شعر فيها العالم بشعور سيء ناجم عن شعوره بشعور جيد إزاء ما كان يجري). فقد أعاد المجتمع الدولي مُعايرة الانتفاضات "على صورته": الشعور بشعور جيد ناجم عن الشعور بشعور سيء إزاء المعاناة البشرية. إلا أنّ التحليل التاريخي للاستعمار في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتواطؤ العالم في دعم الحكام المستبدين في المنطقتين وكذلك تحليل رأس المال والعلاقات الطبقية في المنطقة كانوا غير موجودين على الطاولة معظم الوقت. بدلاً من ذلك، صارت استعادة الحق البشري الكوني في الكرامة وحرية التعبير عبر الانتخابات، والفرصة العادلة للمشاركة في السوق شرطاً لا غنى عنه للانتفاضات.
لتأكيد هذا، لا يحتاج المرء إلا أن ينظر إلى استجابة العالم الحماسية لراشد الغنوشي، "القائد المفكر" لحزب النهضة التونسي، الذي قاد "التحول" في البلاد بعد بن علي. طمأن الغنوشي، الذي هو سابقاً من بين "المائة الأكثر تأثيراً في العالم"، الذين اختارتهم مجلة تايم، و"المفكرين المائة الأهم في العالم" الذين انتقتهم مجلة فورين بوليسي، المجتمع الدولي بأن لا شيء جديداً حدث حين تمرّد التونسيون. سأقرأ ملاحظاته الأكثر تداولاً:
حول رأس المال:" في المجال الاقتصادي الإسلام قريب لوجهة النظر اليسارية، ولا ينتهك حق الملكية الخاصة".
في الديمقراطية:"تحتاج تونس إلى نظام برلماني حيث تُستثمر القوة بشكل مباشر أكثر في الشعب".
حول إسلامية حزب النهضة:" يمكن أن يكون الإسلاميون عصريين أيضاً!... إن الدرس الرئيسي هو أن على الإسلاميين أن يعملوا مع الآخرين. إن الديمقراطية جوهرية للتعامل والمؤالفة بين مصالح مختلفة متصارعة في المجتمع. يمتلك الإسلام روحاً ديمقراطية قوية بقدر ما يحترم الاختلافات الدينية والاجتماعية والسياسية".
ولم يكن مفاجئاً كثيراً اغتيال شكري بلعيد، الشيوعي التونسي الذي اعتبر بن علي وحزب النهضة وجهين لعملة واحدة، في شباط\\فبراير، 2013 دون أن يتفوه المجتمع الدولي بكلمة واحدة. أنا أركز على الغنوشي، ولكن الرئيس المصري السابق مرسي هدّأ من قلق المجتمع الدولي بعد الربيع العربي، مؤكداً الحفاظ على الاتفاقيات الدولية، واتفاقيات التجارة المبرمة، والتزام مصر المستمر بالاعتماد على المساعدة الأميركية وكذلك احترام حكومته لحقوق الملكية والاختلاف الديني (رغم أن مرسي استغرق وقتاً أطول لترتيب قصته الإنسانوية، أرى الغنوشي على أنه زانيكس Xanex المجتمع الدولي، ومرسي هو كلونوبين Clonopin المجتمع الدولي [فقط أضعف بقليل]). أما في ليبيا فقد تدخل المجتمع الدولي بشكل مباشر ناشراً قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) لإنقاذ ضحايا القذافي (في الماضي والحاضر والمستقبل). غير أن ردّ فعل الغرب على الحرب الأهلية في سوريا استثنائي ظاهرياً: بعد مقتل أكثر من مائة ألف شخص، كيف يستطيع مجتمع دولي، مسّوغ وجوده هو إنقاذ الأجساد من الألم، أن يقف جانباً؟ لدى التحليل الدقيق، يتوضح أن المجتمع الدولي تدخل سابقاً في سوريا، ولو أنه لم يفعل ذلك بصورة مباشرة أو على نحو عسكري. ما بدأ جزئياً كانتفاضة فعالة ضد سوريا النيوليبرالية بشكل متزايد تحت حكم بشار الأسد (حيث اللامساواة في الثروة والبطالة في ارتفاع مستمر) أعيد تأطيره كمعارضة سلبية من الأجساد المُنْتَهكة التي تحتاج إلى الإنقاذ. لقد رضي الغرب بإعادة تصنيع التمرد السوري على صورته: كحركة تريد أن تشعر بشعور جيد ناجم عن الشعور بشعور سيء إزاء الأجساد المتأذية. فضلاً عن ذلك، إن التبرير الرسمي لعدم التدخل في سوريا ليس أبداً أن المجتمع الدولي يجب ألا يُنقْذ. بالطبع يجب أن يُنقذ؛ فالمجادلات حول التدخلات الإنسانية في سوريا هي حول كيف ومتى ينبغي أن تحدث: إن المجتمع الدولي لم يتخذ قراراً بعد حول كيف ينقذ السوريين بشكل أفضل، وليس فيما إذا كان يجب إنقاذ السوريين.
حاولتُ أن أقدم فكرة حول كيف دُجِّنَتْ الانتفاضات العربية على صورة المجتمع الدولي، الذي، على الأقل منذ 1989، بُنيَ عبر الشعور بشعور جيد ناجم عن الشعور بشعور سيء إزاء المعاناة البشرية. حاولتُ أن أبيّن أيضاً كيف أعتم هذا التدجين زخم الربيع العربي، اللحظة العابرة حين شعر العالم بشعور سيء ناجم عن الشعور بشعور جيد إزاء الانتفاضات. وعملتْ الأنظمة "الانتقالية" التي بزغتْ في أعقاب هذه الانتفاضات (في تعاون مباشر أو غير مباشر مع المجتمع الدولي) بقوة كي تُعيد طمأنة العالم بأنه لا شيء حقيقياً حدث في الواقع، وبأن الانتفاضات حققت ما كنا نعرفه دوماً من قبل: لا كائن بشرياً يجب أن يعاني.
في تصريحاته في كانون الثاني\\يناير2011 تنبأ باديو ببصيرة ببزوغ شخصيات كالغنوشي ومرسي، والناطقين باسم المعارضة السورية:
وفق أية معايير، إذاً، نستطيع تقييم أعمال الشغب التونسية.. أكيد أن أحد المعايير هو الاعتراف بقوة السلب فيها، فالسلطة المكروهة تنهار على الأقل رمزياً. ولكن ما الذي تم تأكيده؟ لقد استجابت الصحافة الغربية سابقاً بالقول إنّ ما عُبِّر عنه في تونس كان رغبة للغرب. كيف نستطيع تعريف حركة شعبية بكونها قابلة للاختزال إلى "رغبة للغرب"؟ نستطيع القول (وينطبق هذا التعريف على أية بلاد أخرى) إنه يتضمن حركة تحقق نفسها في شخصية المشاغب المعارض للطغيان، الذي تتخذ قوته السلبية والشعبية شكل الحشد، ولكن الذي لا شكل لقوته الإيجابية سوى الأشكال التي يستحضرها الغرب. إن حركة شعبية تلبي هذا التعريف تملك جميع الفرص للانتهاء في الانتخابات (رأسمالية السوق، التعاطف الإنسانوي). ولا يوجد سبب كي يتطور منظور سياسي آخر. أزعم أنه في نهاية عملية كهذه سنشهد ظواهر التضمين الغربي. بالنسبة لما ندعوه الغرب، إن هذه الظاهرة هي النتيجة الحتمية لتطور أعمال الشغب.
الآن، سأكون مهملاً لو أغفلتُ ذكر نقاد ردّ فعل الغرب على الانتفاضات العربية، وإعادة صناعته النرجسية لهذه الانتفاضات على صورته، ولـ "التضمين الغربي" الذي حذّر منه باديو منذ البداية. ركّز منتقدو رد الفعل الغربي على الانتفاضات بشكل صحيح على الطرق التي شكّل بها الربيع العربي تهديداً محتملاً للمصالح المادية للناتو وحلفائه (دول الخليج). إن الدكتاتوريْن، التونسي والمصري، سهّلا المصالح الاقتصادية والأمنية الغربية في المنطقة، من فتح الأسواق إلى معاهدات السلام مع إسرائيل. وإذا ما وضعنا المعارك البلاغية جانباً، على الأقل منذ 11 أيلول\\سبتمبر، عمل قذافي ليبيا وأسد سوريا بشكل وثيق مع الغرب على تحرير السوق وتجارة النفط و"الحرب على الإرهاب". فضلاً عن ذلك، من بين جميع الدول العربية، حافظتْ سوريا، تحت حكم الأسدين، على الحدود الأكثر هدوءاً مع إسرائيل، رغم احتلال إسرائيل المتواصل للجولان. وحين ابتدأت الانتفاضات العربية، حدث اهتزازٌ غير متوقع في النظام العالمي للأمور، وكان على الغرب أن يعمل بسرعة كي يدجّن الحركات على صورته ويوجّه مسارها، وهذا تدجين، يقول أولئك النقاد بشكل صحيح، أنجزه الغرب بنجاح.
ولكن على مستوى رسمي، يعكس النقاد ردّ فعل المجتمع الدولي على الانتفاضات العربية؛ فهم يقولون أيضاً إنه لا شيء جديداً حدث بالفعل، ولو بشكوى ظاهرة بدلاً من ارتياح. إن نقد جوزف مسعد Joseph Massad لرد فعل الغرب على ما حدث في سوريا مثال على ذلك:
"إن الذين يرون أنّ الصراع الشعبي السوري من أجل الديمقراطية اختطفتْه تلك القوى الإمبراطورية والمؤيدة لها داخل وخارج سوريا يفهمون أن استمراراً للتمرد لم يؤدِّ إلا إلى نتيجة واحدة، وهي ليست نتيجة ديمقراطية، أعني نظاماً قمعياً مطواعاً مفروضاً من أميركا كما حدث في العراق وليبيا. إذا كان هذا ما يصارع المتظاهرون السوريون من أجله، إذاً يجب عليهم أن يواصلوا انتفاضتهم؛ وإذا لم يكن هذا هدفهم، إذاً يجب أن يواجهوا النتيجة الصعبة جداً وهي أنهم هُزموا هزيمة منكرة، ليس على يد القمع الرهيب لنظامهم الدكتاتوري الذي قاوموه ببسالة، بل على يد القوى الدولية الملتزمة كالنظام السوري نفسه بحرمان السوريين من الديمقراطية التي يستحقونها."
وبنبرة أقل حدة، حذّر آصف بيات Asef Bayyat من معاملة الانتفاضات كحدث، قائلاً إنها في الحقيقة "حركات إصلاحية داخلية" refolutions. أضاف:"هنا يكمن شذوذ أساسي لهذه الثورات. إنها تتمتع بقوة اجتماعية هائلة، لكنها تفتقر إلى سلطة إدارية؛ تجسّد هيمنة لافتة، لكنها لا تحكم فعلياً... إن مطالب التغيير والحرية والعدالة الاجتماعية في الثورات العربية واسعة بما يكفي كي تطالب بها حتى ثورة مضادة".
أوافق على هذه الانتقادات للانتفاضات العربية. وكما ذكرتُ سابقاً، إن الطاقة الهائلة للانتفاضة السورية وُضعتْ في خدمة الحاجة النرجسية للمجتمع الدولي: الشعور بشعور جيد ناجم عن الشعور بشعور سيء إزاء المعاناة البشرية. وأتفق مع بيات: لقد سرقتْ القوى المضادة للثورة الطاقة الهائلة للانتفاضات بشكل أكثر عموماً. ولكن في النقد السليم لسرقة الطاقة الهائلة للربيع، يعتم مسعد وبيات حقيقة وجود طاقة كهذه (أو زخم) في المقام الأول. وينكران كخصمهما (المجتمع الدولي) حدث الربيع العربي، ينكران أن شيئاً حقيقياً قد حدث فعلاً.
خاتمة: الإخلاص للربيع العربي
في منطق العالم يدعو باديو نمطاً واحداً من الذات ينكر الحدث (أولئك الذين يصرون أن لا شيء جديداً قد حدث حين يكون قد حدث شيء جديد) بأنه "غامض". ضدّ الذات المخلصة للحدث...
ترى الذات الغامضة الأمور بصورة مختلفة... إنّ ما يحمل جسدها متصل بشكل مباشر بالماضي. إن المطلب الوحيد للذات الغامضة هو أن المرء يخدمها عبر تغذيته في كل مكان وفي كل الأزمنة لكراهية كل فكر حيّ، كل لغة شفافة وكل صيرورة غير مؤكدة".
أنتج حدث الربيع العربي ثلاثة متغيرات حول الذات الغامضة (1) علماء اجتماع مثل بوينا دي ميسكيتا وسلامة، الذين يصرّون على إمكانية التنبؤ ـ اللاجدة ـ بكل نتيجة سياسية وتاريخية، بما فيه الانتفاضات العربية؛ (2) المجتمع الدولي والأنظمة "الانتقالية" التي، عبر طرق مباشرة وغير مباشرة من التعاون، أعادت صنع الانتفاضات على صورة الغرب: الشعور بشعور جيد ناجم عن الشعور بشعور سيء إزاء المعاناة البشرية؛ (3) نقاد مثل مسعد، الذين، بسبب عدميتهم، لا يستطيعون أن يروا أي شيء إلا الهزيمة في الانتفاضات العربية. إن هذه المواقف الثلاثة "تعتم" الربيع العربي، تُحطّم الحدث الذي غيّر جوهرياً الحاضر بسبب تمسّكها بحقيقة غير زمنية، مطلقة: بالنسبة لعلماء الاجتماع، كل شيء قابل للتنبؤ؛ بالنسبة للمجتمع الدولي، لا إنسان يجب أن يعاني؛ وبالنسبة لنقاد مثل مسعد، ليس بمقدور الغرب أن يخسر أبداً.
ما الذي يعنيه أن تكون مخلصاً لحدث الربيع العربي، للحظة فريدة بعد الحرب الباردة أُقصي فيها الغرب من حدث مهم عالمياً؟ ما الذي ستعنيه معالجة، بدلاً من تهدئة، قلق الغرب بعد الربيع العربي، التغلب على ردّ فعله على ما حصل، القائم على الاحتفاء والشكوى، بدلاً من قمعه؟ أودّ أن أشير أخيراً إلى أنه كي نكون مخلصين للربيع العربي يجب أن نرفض تعتيم الحدث، وأن نبرز ردّ فعل المجتمع الدولي المهووس كي نبرر إقصاءه؛ أن نعلن بشكل إيجابي، "أن الغرب غير مستعد لما أُنجز. يجب أن يُعَالَج المجتمع الدولي إذا كان يريد أن يتدخل في الحدث". ويتطلب الإخلاص لحدث الربيع العربي "قطيعة مع الغرب، وتحرراً من الغرب"، وإقصاء للغرب إلى أن يُعالج. بتعبير آخر، يرغمنا الربيع العربي على إعلان عالم جديد.
[ألقي هذا البحث في قسم الفلسفة في الجامعة الأميركية في بيروت في 22 كانون الثاني\\يناير 2014 وقد خصّ به الباحث روحيت غويل، مشكوراً، موقع "جدلية".]
ترجمه إلى العربية: أسامة إسبر